الذهب
هذا الكامن مطمورا في المناجم والخزائن يحرك المؤامرات والقصـائد والأمنيات ويقلب الأحلام، ويحتمي بغطاء وهمي من الورق.
الذهب ملك المعادن وسيد المقتنيات حتى لو كان البلاتين أثمن الجواهر أكثر تألقا، لديه قدرة فائقة على مداهمة الأحلام وتحطيم الأمنيات وصياغة الجسد والأقدار والمقالة والقصيدة، مناجمه القديمة في الصحراء الشرقية المصرية وسيبيريا والغرب الأمريكي والجنوب الإفريقي شرايين تتمدد في الجسد الحي للجغرافيا،
يعشق أطراف الإنسان ويتراقص في أصابعه وأذرعه وأذنيه وأسنانه، مشعا بالجمال والسطوة، ينافس القيود في المعاصم، والمشانق في الرقاب، والأغلال في السيقان، والنجوم في الأنوف. الأنقى والأثمن هو الذهب الأحمر، الذي ظل معشوقا من القبائل والمجتمعات التقليدية قبل أن يتفشى الذهب المعاصر المخلوط بالنحاس أو البرونز، بصفته أكثر مرونة واصفرارا، والذهب هو المعدن الوحيد الذي تعالى على التاريخ وتسامى على التقسيمات: العصر الحجري - العصر الحديدي - العصر النحاسي، حيث ظل تعبير "العصر الذهبي" قاسما مشتركا موصوفا لكل العصور، يأخذ كل صاحب صولة جولة بين أقدام الحاكم متمسكا بشدة على أن عصره هو العصر الذهبي، ولذا ليس ثمة خلاف ذو شأن بين القصيدة العصماء التي ألقاها شاعر طيبة - من الصعيد - في مجلس "مينا" الموقر في منف، وكل القصائد التي أريقت في سائر المجالس المظفرة التي تتالت حتى الآن أمام كل الحكام والعواهل والملوك في شتى بقاع العالم.
والذهب معدن وهمي، مثله مثل الأفكار الوهمية الراسخة في العقول اللاواعية التي تعيش في الأكذوبة الكبرى، ويكفي أن تعلم أن هذا المعدن ذا البريق المتألق، المكدس في خزائن الحكومات والمصارف والعصابات والمناجم والمؤسسات والأفراد، والذي يحرك الشهوات والمطامع ويفسد العلاقات ويصنع اضطرابات للطبقات والبورصات والجماعات، هذا المعدن القادر على إصلاح كل الأفئدة والضمائر والأوتار والحناجر، وينشر الدفء في المكائد والمؤامرات والمجالس والمراقد والمواقف، ويثير أريج الزهور ودبيب المحاكم ودخان المصانع وروائح بلاليص الجبن القديم وبراميل المشروبات المعتقة. ويحمي الإخلاص ويكسو العرايا ويقيم وزنا لمن لا وزن له، هذا المعدن الخطير الذي لم يتغير دوره المؤثر منذ اكتشافه الموغل في القدم حتى الآن، غطاؤه من الورق، ينام كل هذا الكنز الذهبي تحت لحاف من الورق المطبوع، ورق لو جردناه من معناه لما أنضج احتراقه عدة كيلو جرامات من اللحم المشوي، ولما استطاع ما يساوي مليون دولار منه أن يحمي كلبا عاويا من الريح، لكنه - بقدرة متسلطة - يمكنه أن يتحول في غمضة عين إلى فراش وثير، وجميلات جذابات، وتذاكر سفر، وتنظيمات سياسية، وأخلاق عالية، وأمواج هادرة، وكراسات للتلاميذ، وأحذية للانزلاق، وحصون للسجون، ومجلات وصحف سيارة، وأكاذيب مقنعة وسباع أليفة وسيارات مدرعة، ودعاء في الساحات والميادين والشاشات، دون أن يتحرك هذا المعدن اللئيم من مكمنه ويتعرض لضوء الشمس المرهق، تاركا أمر وظيفته وتنفيذ تعليماته لهذا الغطاء الورقي الوهمي الطريف، حتى ولو كان المعنى معكوسا والغطاء ذهبيا.
لكن الذهب - فى حالته الفقيرة - يسبغ على عيون الأنثى بريقا غير ما تعودنا من بريق، في العيون الأخاذة، واضطراب غمازة الخد، وارتعاش الإصبع المشرعة، عندما تلتف حولها دبلة الخطوبة، حيث تسقط كل المعاني الأخرى للذهب، ولو لفترة محدودة تكفي لإنجاب أربعة أنجال يستحقون أن يوهبوا كل كميات الغطاء الورقي الوهمي الذي نسعى للحصول عليه طوال العمر.